
الوقفة الأولى:اختلف أهل العلم في ترتيب أحوال يوم القيامة.
فإنَّ ما يحصل يوم القيامة، وما يكون مِمَّا ورد في الكتاب والسُّنَّة، أشياء كثيرة: قيام الناس، والحوض، والميزان، والصُّحُف، والحساب، والعرض، وتطاير الصُّحُف، وأخذ الكتاب، الصراط، والظلمة، وهذه أشياء متنوعة
فكيف يكون ترتيبها؟
أولاً: لا يوجد نصٌّ صريح في ترتيبها، ولذا وقع الخلاف في هذه المسألة.
ثانيًا: سأعطي عرضًا موجزًا لِما سيأتي، ثم ندخل في تفاصيله، وهذا العرض الموجز ذكره الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله - وأنه هوالذي قرَّرَهُ المحققون من أهل العلم.
وأنَّ ترتيبها كالتالي:
1 - إذا بُعث الناس، وقاموا من قبورهم، ذهبوا إلى أرض المحشر، ثم يقومون فيها قيامًا طويلا، تشتد معه حالهم، وظمؤُهُم، ويخافون في ذلك خوفًا شديدًا؛ لأجل طول المقام، ويقينهم بالحساب، وما سيُجري الله - عزَّ وجل - عليهم.
2 - فإذا طال المُقام رَفَعَ الله - عزَّ وجل - لنبِّيه صلى الله عليه وسلم أولًا حوضه المورود، فيكون حوض النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في عَرَصَات القيامة، إذا اشتد قيامهم لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سَنَة.
فمن مات على سنّته غير مُغَيِّرٍ، ولا مُحْدِثٍ، ولا مُبَدِّلْ، وَرَدَ عليه الحوض، وسُقِيَ منه، فيكونُ أولا لأمان له أن يكون مَسْقِيًا من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها يُرْفَعُ لكل نبي حوضه، فيُسْقَى منه صالح أمته.
3 - ثم يقوم الناس مُقامًا طويلًا، ثم تكون الشفاعة العظمى - شفاعة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، بأن يُعَجِّلَ الله - عزّ وجل - حساب الخلائق، في الحديث الطويل المعروف أنهم يسألونها آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم إلى آخره، فيأتون إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويقولونله: يا محمد، ويصِفُونَ له الحال، وأن يقي الناس الشِّدَّة بسرعة الحساب، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد طلبهم اشفع لنا عند ربك: «أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا»، فيأتي عند العرش فيخرّ، فيحمد الله - عز وجل - بمحامد يفتحها الله - سبحانه - عليه، ثم يقال: «يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ »، فتكون شفاعته العظمى في تعجيل الحساب.
4 - بعد ذلك يكون العرض - عرض الأعمال - .
5 - ثم بعد العرض يكون حساب.
6 - وبعد الحساب الأول تتطاير الصحف، والحساب الأول منضمن العرض؛ لأن فيه جدال، ومعاذير، ثُمَّ بعد ذلك تتطاير الصحف، ويُؤْتَى أهل اليمين كتابهم باليمين، وأهل الشمال كتابهم بشمالهم، فيكون قراءة الكتاب.
7 - ثم بعد قراءة الكتاب، يكون هناك حساب أيضًا؛ لقطع المعذرة، وقيام الحجة بقراءة ما في الكتب.
8 - ثم بعدها يكون الوزن - الميزان - ، فتوزن الأشياء التي ذكرنا.
9 - ثم بعد الميزان ينقسم الناس إلى طوائف وأزواج - أزواج بمعنى: كل شكل إلى شكله - ، وتُقَامْ الألوية - ألوية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - لواء محمد صلى الله عليه وسلم، ولواء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، ولواء موسى - عليه الصلاة والسلام - إلى آخره، ويتنوع الناس تحت اللواء بحسب أصنافهم، كل شَكْلٍ إلى شكله.
والظالمون، والكفرة أيضًا يُحْشَرُونَ أزواجًا - يعني: متشابهين - كما قال تعالى: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الصافات:22، 23]؛ يعني بأزواجهم: أشكالهم، ونُظَرَاءَهُمْ، فيُحْشَرْ علماء المشركين مع علماء المشركين، ويُحْشَرْ الظلمة مع الظلمة، ويُحْشَرْ منكري البعث، مع منكري البعث، ويُحْشَرْ منكري الرسالة مع منكري الرسالة، وهكذا في أصناف.
10 - ثُمَّ بعد هذا يَضْرِبُ الله - عز وجل - الظُّلمة قبل جهنم - والعياذ بالله - ، فيسير الناس بما يُعْطَونَ من الأنوار، فتسير هذه الأمَّة وفيهم المنافقون، ثُمَّ إذا ساروا على أنوارهم ضُرِبَ السُّور المعروف: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْقِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُم ْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوابَلَى ﴾ [الحديد:13، 14] الآيات، فيُعْطِيْ الله - عز وجل - المؤمنين النور فيُبْصِرُون طريق الصراط، وأمَّا المنافقون فلا يُعْطَون النور، فيكونون مع الكافرين يتهافتون في النار، يمشون وأمامهم جهنم - والعياذ بالله - .
11 - ثم يأتي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أولًا ويكون على الصراط، ويسأل الله - عز وجل - السلامة له ولأمته، فيقول: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ »فَيَمُرْ صلى الله عليه وسلم وتَمُرُّ أمته على الصراط، كُلٌ يمر بقدر عمله، ومعهنور أيضًا بقدر عمله، فيمضي مَنْ غَفَرَ الله - عزّ وجل - له، ويبقى في النار، فتكون العبارة: ويسقط في النار في طبقة الموحّدين من شاء الله - عز وجل - أن يُعَذّبه.
ثم إذا انتهوا من النار اجتمعوا في عَرَصَات الجنَّة - يعني: في السّاحات التي أعدها الله - عز وجل - - ؛ لأن يُقْتَصَّ أهل الإيمان بعضهم من بعض، ويُنْفَى الغِلّ حتى يدخلوا الجنَّة، وليس في قلوبهم غِلّ.
12 - فيدخل الجنَّة أول الأمر بعد النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقراء المهاجرين، ثم فقراء الأنصار إلى آخره، ثم فقراء الأمَّة، ويُؤَخَرْ الأغنياء؛ لأجل الحساب الذي بينهم، وبين الخلق، ولأجل محاسبتهم على ذلك
وقيل في ترتيبها غير ما تقدَّم، وكما ذكرتُ سابقا في المسألة خلاف؛ لعدم وجود النَّص القاطع في ترتيبها، وبقي أحداث، وأحوال لم تُذكر، سيأتي بيانها - بإذن الله تعالى - .
• الوقفة الثانية: لتعلم أنَّ البداية بعد البعث تكون من أرض المحشر، وعندها اعلم أن هول ذلك اليوم هول عظيم، فأعدَّ لهذا اليوم عدَّته، فهو طويل وطويل، فيه مشاقٌّ، ومصاعب، ولك أن تتصور أن فيه من هوله ما يشيب معه الصغير، وما تذهل معه المرضع والحامل عن ولدهما، وما يجعل الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله تعالى شديد، إنه يوم عظيم: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 4 - 6].، إنه يوم القلوب والأبصار فيه مضطربة متقلبة: ﴿ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾[النور:37]، وتنقطع فيه الأنساب، إنه يوم طويل ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج:4]، ولا تظن - أيها المبارك - أنَّ اليوم أربعٌ وعشرون ساعة، لا، فالله تعالى أخبرنا بقوله ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج:47].
فما أطوله من يوم؟ وما أغفلها من قلوب؟ والله المستعان، إنه يوم فيه القدوم على الله تعالى، فعلى أي حال ستُقْدِم على ربك - جل في علاه - ؟؟
﴿ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾ [هود:103، 104].
ووالله لو قيل لنا: مطلوب منك المثول بين يدي قاضٍ من قضاة الدنيا، أو ملِك من ملوك الدنيا، لاهتممنا، وانشغلت أذهاننا عن الطعام، والشراب، والكلام، ولَمَا تلذّذنا براحة أو منام، ولفزعنا؛ لأننا نتصور ما نحن مقدمون عليه جيدًا، فكيف ويوم القيامة سنقف فيه بين يدي ملك الملوك وقاضي القضاة؛ الله رب الأرض والسماوات؟!
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وألسنتنا من الزلات، وأعيننا من الزيغ، يا سميع يا مجيب وارزقنا يا إلهي الإقبال على الآخرة، والزهد في الدنيا، يا سميع الدعاء.
مستلة من: "فقه الانتقال من دار الفرار إلى دار القرار"
انظر: كتاب إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل للشيخ صالح آل الشيخ المسألة التاسعة.
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
شبكة الألوكه
يتبع
