
فوائد من المجلد العاشر من فتاوى
شيخ الإسلام ابن تيمية «السلوك »
شيخ الإسلام ابن تيمية «السلوك »

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام
على نبينا محمد وآله وسلم .
أما بعد : فهذه بعض الفوائد من المجلد العاشر من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى بعلم السلوك ،
وهذا المجلد يتضمن عددا من الرسائل منها : «التحفة العراقية في الأعمال القلبية » ،
و«أمراض القلوب وشفاؤها» و «العبودية» و «وجواب عن دعوة ذي النون»
و «الوصية الصغرى» و غيرها .
ص8: مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ .
ص 45: وَالْمُؤْمِنُ إذَا فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ
أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ .
أَوْ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ لَهُ .
أَوْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُوهَا فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ .
أَوْ يَدْعُو لَهُ إخْوَانُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا .
أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ .
أَوْ يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَوْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ .
أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي الْبَرْزَخِ بِالصَّعْقَةِ فَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ .
أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ .
أَوْ يَرْحَمُهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
فَمَنْ أَخْطَأَتْهُ هَذِهِ الْعَشَرَةُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ.
ص58: «... وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ : يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ » .
فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ تَعَارُضُ إرَادَتَيْنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ عَبْدُهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ ، وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ فَهُوَ يَكْرَهُهُ كَمَا قَالَ:
وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَضَى بِالْمَوْتِ ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ فَسَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ .
ص71: فَمِنْ عَلامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلاقِ نَفْيِهِ .
ص96 : فَالْقَلْبُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَرَبَّى فَيَنْمُو وَيَزِيدُ حَتَّى يَكْمُلَ وَيَصْلُحَ كَمَا يَحْتَاجُ الْبَدَنُ أَنْ يُرَبَّى بِالْأَغْذِيَةِ الْمُصْلِحَةِ لَهُ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ مَا يَضُرُّهُ فَلَا يَنْمُو الْبَدَنُ إلَّا بِإِعْطَاءِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَنْعِ مَا يَضُرُّهُ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَزْكُو فَيَنْمُو وَيَتِمُّ صَلَاحُهُ إلَّا بِحُصُولِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ لَا يَزْكُو إلَّا بِهَذَا . وَ " الصَّدَقَةُ " لَمَّا كَانَتْ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ صَارَ الْقَلْبُ يَزْكُو بِهَا وَزَكَاتُهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ يَزْكُو بِهَا الْقَلْبُ . وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ فِي الْبَدَنِ وَمِثْلُ الدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ فَإِذَا اسْتَفْرَغَ الْبَدَنُ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ كَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الزَّائِدِ تَخَلَّصَتْ الْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَرَاحَتْ فَيَنْمُو الْبَدَنُ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ كَانَ اسْتِفْرَاغًا مِنْ تَخْلِيطَاتِهِ حَيْثُ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَإِذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ تَخَلَّصَتْ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَإِرَادَاتُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتَرَاحَ الْقَلْبُ مِنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ .
فَزَكَاةُ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَنْمُو وَيَكْمُلُ .
ص99: وَالْعَدْلُ الْمَحْضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُتَعَذِّرٌ عِلْمًا وَعَمَلا وَلَكِنْ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ.
ص123: ... مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْمَصَائِبِ هُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَجْرِي بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ يُوسُفَ لَا مِنْ جِنْسِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَهَذَا أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ وَأَهْلُهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ وَرِضَاهُ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ الذُّنُوبُ بِمَصَائِبِهِ - فَإِنَّ هَذَا أُصِيبَ وَأُوذِيَ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً لِلَّهِ يُثَابُ عَلَى نَفْسِ الْمَصَائِبِ وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ . قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . بِخِلَافِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالْمَرَضِ وَمَوْتِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ اللُّصُوصِ مَالَهُ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا لَا عَلَى نَفْسِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمُصِيبَةِ ؛ لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ يُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا .
ص124-125: الْحَسَد مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ : مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ .
وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ ؟
فَقَالَ: مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ لَا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمَهٌ فِي صَدْرِك فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا .
فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ . فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ فَلَا يُعِينُونَ مَنْ ظَلَمَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ ، بَلْ إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ ، وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا .
وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ ؛ لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ ، وَجَزَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْخَسُونَ حُقُوقَهُمْ فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ ، وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ ، كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ .
وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ .
وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الظَّالِمِينَ نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ ...
ص130: وَالنَّاسُ فِي الْعِشْقِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَقِيلَ : مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ وَأَنَّهُ فَسَادٌ فِي التَّخْيِيلِ حَيْثُ يَتَصَوَّرُ الْمَعْشُوقُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ .
قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِالْعِشْقِ وَلَا أَنَّهُ يَعْشَقُ ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُحْمَدُ مَنْ يَتَخَيَّلُ فِيهِ خَيَالًا فَاسِدًا .
وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُوصَفُ بِالْعِشْقِ فَإِنَّهُ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ ؛ وَاَللَّهُ يُحَبُّ وَيُحِبُّ ، وَرُوِيَ فِي أَثَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ يَعْشَقُنِي وَأَعْشَقُهُ } وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ .
وَالْجُمْهُورُ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَقِّ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْعِشْقَ هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَنْبَغِي ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلَيْسَتْ تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ لَا تَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ .
قَالَ هَؤُلَاءِ : وَالْعِشْقُ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا لَا يُمْدَحُ لَا فِي مَحَبَّةِ الْخَالِقِ وَلَا الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْمُودِ وَ أَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ " الْعِشْقِ " إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ لِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَحَبَّةٍ كَمَحَبَّةِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ وَالْجَاهِ وَمَحَبَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ مَقْرُونٌ كَثِيرًا بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ : إمَّا بِمَحَبَّةِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ صَبِيٍّ يَقْتَرِنُ بِهِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ وَاللَّمْسُ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ .
ص133: إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ وَعَفَّ وَصَبَرَ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَقْوَاهُ اللَّهَ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ كَانَ شَهِيدًا } وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ
رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهَذَا .
لَكِنْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا عَفَّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ نَظَرًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا ، وَكَتَمَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ مُحَرَّمٌ : إمَّا شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ ، وَإِمَّا إظْهَارُ فَاحِشَةٍ ، وَإِمَّا نَوْعُ طَلَبٍ لِلْمَعْشُوقِ ، وَصَبْرٍ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَعَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ أَلَمِ الْعِشْقِ كَمَا يَصْبِرُ الْمُصَابُ عَنْ أَلَمِ الْمُصِيبَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . ونحوه في 28/215.
ص134: وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُبْغِضُ شَيْئًا فَيُبْغِضُ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ . وَكَذَلِكَ يُحِبُّ شَيْئًا فَيُحِبُّ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً ؛ لِأَجْلِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ : أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى * أُحِبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ !
فَقَدْ أَحَبَّ سَوْدَاءَ ؛ فَأَحَبَّ جِنْسَ السَّوَادِ حَتَّى فِي الْكِلَابِ وَهَذَا كُلُّهُ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فِي تَصَوُّرِهِ وَإِرَادَتِهِ .
ص135: وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَانَتْ مُشْرِكَةً هِيَ وَقَوْمُهَا فَلِهَذَا اُبْتُلِيَتْ بِالْعِشْقِ وَمَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَحَدٌ إلَّا لِنَقْصِ تَوْحِيدِهِ وَإِيمَانِهِ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ الْمُنِيبُ إلَى اللَّهِ الْخَائِفُ مِنْهُ فِيهِ صَارِفَانِ يَصْرِفَانِ عَنْ الْعِشْقِ :
أَحَدُهُمَا : إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَبْقَى مَعَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَحَبَّةُ مَخْلُوقٍ تُزَاحِمُهُ .
وَالثَّانِي : خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُضَادَّ لِلْعِشْقِ يَصْرِفُهُ .
وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا بِعِشْقِ أَوْ غَيْرِ عِشْقٍ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ عَنْ مَحَبَّتِهِ بِمَحَبَّةِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا كَانَ يُزَاحِمُهُ وَيَنْصَرِفُ عَنْ مَحَبَّتِهِ بِخَوْفِ حُصُولِ ضَرَرٍ يَكُونُ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ ذَاكَ الْحُبِّ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَخْوَفَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ عِشْقٌ ، وَلَا مُزَاحَمَةٌ إلَّا عِنْدَ غَفْلَةٍ ، أَوْ عِنْدَ ضَعْفِ هَذَا الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَكُلَّمَا فَعَلَ الْعَبْدُ الطَّاعَةَ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ وَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ حُبًّا لَهُ وَخَوْفًا مِنْهُ قَوِيَ حُبُّهُ لَهُ وَخَوْفُهُ مِنْهُ فَيُزِيلُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَمَخَافَةِ غَيْرِهِ .
ص147: جَاءَ فِي الْأَثَرِ " إذَا قَالُوا لِلْمَرِيضِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ يَقُولُ اللَّهُ : كَيْفَ أَرْحَمُهُ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُهُ " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا } .
ص 183: وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " و " الصَّفْحَ الْجَمِيلَ " و " الصَّبْرَ الْجَمِيلَ " . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " هُوَ هَجْرٌ بِلَا أَذًى . وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ صَفْحٌ بِلَا مُعَاتَبَةٍ . وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ ؛ وَلِهَذَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طاوسا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ الْمَرِيضِ وَيَقُولُ : إنَّهُ شَكْوَى فَمَا أَنَّ أَحْمَد حَتَّى مَاتَ . وانظر ص666.
ص 189: ... وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ :
( مِنْهَا ) مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَمَسْكَنِهِ ومنكحه وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ فَيَكُونُ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ؛ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . [نحوه ص663]
و ( مِنْهَا ) مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا ؛ فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا ؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ؛ بَلْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ؛ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ ؛ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ } وَهَذَا هُوَ عَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَوْ طَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهَا رَضِيَ ؛ وَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهَا سَخِطَ وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ مَنْ يُرْضِيهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ ؛ وَيُسْخِطُهُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ ؛ وَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ .
ص 193: و " الْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ فَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْبُوبَاتِ لَا تُنَالُ غَالِبًا إلَّا بِاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً صَالِحَةً أَوْ فَاسِدَةً فَالْمُحِبُّونَ لِلْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ لَا يَنَالُونَ مَطَالِبَهُمْ إلَّا بِضَرَرِ يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ مَا يَرَى ذُو الرَّأْيِ مِنْ الْمُحِبِّينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَحْتَمِلُونَ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ إذَا كَانَ مَا يَسْلُكُهُ أُولَئِكَ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ الْعَقْلُ .
ص218: الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ؛ وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ .
( فَأَمَّا الْأَوَّلُ ) فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ . وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ ....
( وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي ) فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى "
. وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ ؛ لَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ ؛ بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ ... وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ . وَإِمَّا رَجَاءٌ يُبْقِي قَلْبَهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ .... وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ . وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَان ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ . أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ . وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ ... [و] الكمل تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيَّدًا وَمُمَدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ والكمل مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ...
( وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ ) مِمَّا قَدْ يُسَمَّى فَنَاءً : فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ فَهَذَا فَنَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ الْوَاقِعِينَ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ . [وانظر في الفناء وأنواعه ص337. ]
ص 272: إذَا تَحَقَّقَ الْقَلْبُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِرَادَةِ لَزِمَ وُجُودُ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْمُرَادِ قَطْعًا وَإِنَّمَا يَنْتَفِي وُجُودُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ كَمَالِ الْإِرَادَةِ وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِهَا يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ فَإِذَا أَقَرَّ الْقَلْبُ إقْرَارًا تَامًّا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَحَبَّهُ مَحَبَّةً تَامَّةً امْتَنَعَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ عَاجِزًا لِخَرَسِ وَنَحْوِهِ أَوْ لِخَوْفِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا . [وانظر 747 وما قبلها . ]
ص 289: الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ؛ فَإِنَّ " النَّبِيَّ " هُوَ المنبأ عَنْ اللَّهِ و " الرَّسُولُ " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا وَالْعِصْمَةُ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَكِنْ هَلْ يَصْدُرُ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ فَيَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ؟
هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ . ...
وَأَمَّا الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ نِزَاعٌ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ ؟
وَمُتَنَازِعُونَ فِي الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ، أَوْ مِنْ بَعْضِهَا ، أَمْ هَلْ الْعِصْمَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا لَا فِي فِعْلِهَا ؟ أَمْ لَا يَجِبُ الْقَوْلُ بِالْعِصْمَةِ إلَّا فِي التَّبْلِيغِ فَقَطْ ؟ وَهَلْ تَجِبُ الْعِصْمَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَمْ لَا ؟ ... وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ إثْبَاتُ الْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ مُطْلَقًا ...
[يراجع هناك فهو بحث طويل.]
ص295: ... وَالرَّادُّونَ لِذَلِكَ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِمِثْلِ تَأْوِيلَاتِ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَالدَّهْرِيَّةِ لِنُصُوصِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَنُصُوصِ " الْقَدَرِ " وَنُصُوصِ " الْمَعَادِ " وَهِيَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّهَا مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُ أَحَدُهُمْ تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَقَعُ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَيُرِيدُ الْإِيمَانَ بِهِمْ فَيَقَعُ فِي الْكُفْرِ بِهِمْ .
ص297: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الْعَبْدَ إذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَإِذَا تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً } وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكَهَا لِلَّهِ لَمْ تُكْتَبْ لَهُ حَسَنَةً وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةً ...
وفي ص720-آخر المجلد: بحث كبير في المسألة ، ومما جاء فيه :
ص738: وَهَذَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ : فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا لِخَشْيَةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ أَوْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنْ تَرَكَهَا لِخَشْيَةِ اللَّهِ كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَكَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { اُكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي أَوْ قَالَ : مِنْ جَرَّائِي } وَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ } . وَبِهَذَا تَتَّفِقُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ . وَإِنْ عَمِلَهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ إلَّا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضَعِّفُ السَّيِّئَاتِ بِغَيْرِ عَمَلِ صَاحِبِهَا وَلَا يَجْزِي الْإِنْسَانَ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِمَا عَمِلَتْ نَفْسُهُ...
وقال في ص470: وَكَذَلِكَ الْحَرِيصُ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْجَازِمُ بِإِرَادَةِ فِعْلِهَا إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَجْزِ فَهَذَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةَ الْفَاعِلِ لِحَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ، وَلِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ : هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ } وَفِي لَفْظٍ : { إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } .
فَهَذِهِ " الْإِرَادَةُ " هِيَ الْحِرْصُ وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَقَدْ وُجِدَ مَعَهَا الْمَقْدُورُ وَهُوَ الْقِتَالُ لَكِنْ عَجَزَ عَنْ الْقَتْلِ...
ص297: وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ، وَلِذَلِكَ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الذَّنْبِ لِلَّهِ . فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ : مِنْ أَنَّهُ حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى يَدِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ فَكُلُّهُ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَذِبًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْحًا فِيهِمْ، وَكُلُّ مَنْ نَقَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَنْهُمْ نَقَلَهُ؛ لَمْ يَنْقُلْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا وَاحِدًا .
وَقَوْلُهُ : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } فَمِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَمَا يَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ دِلَالَةً بَيِّنَةً لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ
أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَيُوسُفُ إذْ ذَاكَ فِي السِّجْنِ لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ إلَى الْمَلِكِ وَلَا سَمِعَ كَلَامَهُ وَلَا رَآهُ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ فِي غَيْبَتِهِ - كَمَا قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أَيْ لَمْ أَخُنْهُ فِي حَالِ مَغِيبِهِ عَنِّي وَإِنْ كُنْتُ فِي حَالِ شُهُودِهِ رَاوَدْتُهُ - فَحِينَئِذٍ : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَاد،ِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى نَقْضِهِ.
ص300: وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكْفُرْ قَطُّ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ لَيْسَ بِصَوَابِ ؛ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي عَاقِبَتِهِ كَانَ أَفْضَلَ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِمْ ؛ بَلْ مَنْ عَرَفَ الشَّرَّ وَذَاقَهُ ثُمَّ عَرَفَ الْخَيْرَ وَذَاقَهُ فَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَيْرِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالشَّرِّ وَبُغْضُهُ لَهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَذُقْهُمَا كَمَا ذَاقَهُمَا ؛ بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا الْخَيْرَ فَقَدْ يَأْتِيهِ الشَّرُّ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرٌّ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يُنْكِرَهُ كَمَا أَنْكَرَهُ الَّذِي عَرَفَهُ . وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ . وَهُوَ كَمَا قَالَ عُمَرُ ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ هُوَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ نَشَأَ فِي الْمَعْرُوفِ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْمُنْكَرِ وَضَرَرِهِ مَا عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْجِهَادِ لِأَهْلِهِ مَا عِنْدَ الْخَبِيرِ بِهِمْ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الْخَبِيرُ بِالشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ إذَا كَانَ حَسَنَ الْقَصْدِ عِنْدَهُ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَمَنْعِ أَهْلِهِ وَالْجِهَادِ لَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْظَمَ إيمَانًا وَجِهَادًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِمْ لِلْخَيْرِ وَبُغْضِهِمْ لِلشَّرِّ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقُبْحِ حَالِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ ذَاقَ الْفَقْرَ وَالْمَرَضَ وَالْخَوْفَ أَحْرَصَ عَلَى الْغِنَى وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْ ذَلِكَ .
وَلِهَذَا يُقَالُ : وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ . وَيُقَالُ :
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَسْتُ بِخِبِّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ . فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لَا الشَّرَّ وَكَمَالُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ فَذَاكَ نَقْصٌ فِيهِ لَا يُمْدَحُ بِهِ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَكْرَهُ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْهُ مُطْلَقًا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الطَّبِيبُ أَعْلَمَ بِالْأَمْرَاضِ مِنْ الْمَرْضَى وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطِبَّاءُ الْأَدْيَانِ فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ وَيُفْسِدُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَذُقْ مِنْ الشَّرِّ مَا ذَاقَهُ النَّاسُ .
وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِذَوْقِهِ الشَّرَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَالنُّفُورِ عَنْهُ وَالْمَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ إذَا ذَاقَهُ مَا لَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِثْلُ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَقَدْ عَرَفَ مَا فِي الْكُفْرِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَعَرَّفَهُ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرْغَبَ فِيهِ وَأَكْرَهَ لِلْكُفْرِ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ ؛ بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ بَعْضِ حَقِيقَةِ هَذَا وَحَقِيقَةِ هَذَا أَوْ مُقَلِّدٌ فِي مَدْحِ هَذَا وَذَمِّ هَذَا...
ص323: مَنْ لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ لَا عَلَى حُكْمِ مَنْ تَابَ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ ، وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ :
( أَحَدُهُمَا ) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . مَعَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
( وَالْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ ...
ص362:
وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَالِكًا إنَّمَا احْتَذَى مُوَطَّأَهُ . عَلَى كِتَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ .
ص366:
وَهَذَا ( أَصْلٌ عَظِيمٌ ) وَهُوَ : أَنْ تَعْرِفَ الْحَسَنَةَ فِي نَفْسِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً . وَتَعْرِفَ السَّيِّئَةَ فِي نَفْسِهَا عِلْمًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا مَحْظُورَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَحْظُورَةٍ - إنْ سُمِّيَتْ غَيْرُ الْمَحْظُورَةِ سَيِّئَةً - وَإِنَّ الدِّينَ تَحْصِيلُ الْحَسَنَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَتَعْطِيلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَفَاسِدِ . وَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ أَوْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الْأَمْرَانِ فَالذَّمُّ وَالنَّهْيُ وَالْعِقَابُ قَدْ يَتَوَجَّهُ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا فَلا يَغْفُلُ عَمَّا فِيهِ مِنْ النَّوْعِ الآخَرِ كَمَا يَتَوَجَّهُ الْمَدْحُ وَالأَمْرُ وَالثَّوَابُ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا فَلا يَغْفُلُ عَمَّا فِيهِ مِنْ النَّوْعِ الآخَرِ، وَقَدْ يُمْدَحُ الرَّجُلُ بِتَرْكِ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ الْبِدْعِيَّةِ والفجورية لَكِنْ قَدْ يُسْلَبُ مَعَ ذَلِكَ مَا حُمِدَ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ السُّنِّيَّةِ الْبَرِّيَّةِ . فَهَذَا طَرِيقُ الْمُوَازَنَةِ وَالْمُعَادَلَةِ وَمَنْ سَلَكَهُ كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ لَهُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ .
ص368: وَكَانَ " لِلزُّهَّادِ " عِدَّةُ أَسْمَاءٍ : يُسَمَّوْنَ بِالشَّامِ " الجوعية " وَيُسَمَّوْنَ بِالْبَصْرَةِ " الفقرية " و " الْفِكْرِيَّةَ " وَيُسَمَّوْنَ بِخُرَاسَانَ " الْمَغَارِبَةَ " وَيُسَمَّوْنَ أَيْضًا " الصُّوفِيَّةَ وَالْفُقَرَاءَ " . وَالنِّسْبَةُ فِي " الصُّوفِيَّةِ " إلَى الصُّوفِ ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ لِبَاسِ الزُّهَّادِ .
ص371: الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَا ثَبَتَ قُبْحُهُ مِنْ الْبِدَعِ وَغَيْرِ الْبِدَعِ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا صَدَرَ عَنْ شَخْصٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُعْذَرُ فِيهِ ؛ إمَّا لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ يُعْذَرُ فِيهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَرَّرْته أَيْضًا فِي أَصْلِ " التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ " الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِ الْوَعِيدِ . فَإِنَّ نُصُوصَ " الْوَعِيدِ " الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُسْتَلْزَمُ ثُبُوتُ مُوجَبِهَا فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . هَذَا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْوَعِيدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَالِدٌ فِي النَّارِ أَوْ غَيْرُ خَالِدٍ وَأَسْمَاءُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ " الْقَاعِدَةِ " سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ بِدْعَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ أَوْ عِبَادِيَّةٍ أَوْ بِسَبَبِ فُجُورٍ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْفِسْقُ بِالْأَعْمَالِ . فَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ جِهَادَ الْكُفَّارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِدَعْوَتِهِمْ ؛ إذْ لَا عَذَابَ إلَّا عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ وَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الْفُسَّاقِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ .
ص372: وَهُنَا قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا : وَهُوَ أَنَّ مَا عَادَ مِنْ الذُّنُوبِ بِإِضْرَارِ الْغَيْرِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَعُقُوبَتُنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا أَكْبَرُ، وَأَمَّا مَا عَادَ مِنْ الذُّنُوبِ بِمَضَرَّةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ، وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نُعَاقِبُهُ فِي الدُّنْيَا . وَإِضْرَارُ الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ هُوَ ظُلْمُ النَّاسِ ؛ فَالظُّلْمُ لِلْغَيْرِ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لَا مَحَالَةَ لِكَفِّ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ مَا يَجِبُ لَهُمْ مِنْ الْحُقُوقِ وَهُوَ التَّفْرِيطُ .
والثَّانِي: فِعْلُ مَا يَضُرُّ بِهِ وَهُوَ الْعُدْوَانُ . فَالتَّفْرِيطُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ...
ص385: فَلَا يَسُوغُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوجَبِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَسُوغُ الذَّمُّ وَالْعُقُوبَةُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَسُوغُ جَعْلُ الشَّيْءِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ صَوَابًا أَوْ خَطَأً بِالشُّبُهَاتِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .
وَبَقِيَتْ هُنَا " الْمَسْأَلَةُ " الَّتِي تَشْتَبِهُ غَالِبًا وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِيهِ عُذْرًا شَرْعِيًّا .
مِثْلُ وَجْدٍ خَرَجَ فِيهِ عَنْ الشَّرْعِ لَا يُدْرَى أَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ أَمْ مُتَصَنِّعٌ وَأَخْذُ مَالٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ طِيبَ قَلْبِ صَاحِبِهِ بِهِ فَهَذَا إنْ قِيلَ : يُنْكَرُ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا وَإِنْ قِيلَ : لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، لَزِمَ إقْرَارُ الْمَجْهُولِينَ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُخَاطَبَ صَاحِبُهُ أَوَّلًا بِرِفْقِ وَيُقَالَ لَهُ : هَذَا فِي الظَّاهِرِ مُنْكَرٌ وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَأَنْتَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى نَفْسِك فَأَخْبِرْنَا بِحَالِك فِيهِ ، أَوْ لَا تُظْهِرْهُ حَيْثُ يَكُونُ إظْهَارُهُ فِتْنَةً وَتَسْلُكُ فِي ذَلِكَ طَرِيقَةً لَا تُفْضِي إلَى إقْرَارِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا لَوْمِ الْبُرَآءِ .
وَالضَّابِطُ: أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ = أُقِرَّ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَحَرَامٌ. وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْكَذِبُ أَوْ الْخِيَانَةُ = لَمْ يُقَرَّ عَلَى الْمَجْهُولِ ، وَأَمَّا الْمَجْهُولُ = فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ .
ص394: وَأَمَّا الْخَلَوَاتُ فَبَعْضُهُمْ يَحْتَجُّ فِيهَا بِتَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءٍ قَبْلَ الْوَحْيِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ إنْ كَانَ قَدْ شَرَعَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا . وَهُوَ مِنْ حِينِ نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَارِ حِرَاءٍ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ . وَقَدْ أَقَامَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَامَ الْفَتْحِ أَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَتَاهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ؛ وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ لَيَالٍ وَغَارُ حِرَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَمْ يَقْصِدْهُ .
ص402: وَابْنُ سِينَا وَمَنْ تَبِعَهُ أَخَذُوا أَسْمَاءً جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ فَوَضَعُوا لَهَا مُسَمَّيَاتٍ مُخَالِفَةً لِمُسَمَّيَاتِ صَاحِبِ الشَّرْعِ ثُمَّ صَارُوا يَتَكَلَّمُونَ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ فَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا مَا قَصَدَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ فَأَخَذُوا مُخَّ الْفَلْسَفَةِ وَكَسَوْهُ لِحَاءَ الشَّرِيعَةِ .
ص 403: وَمِمَّا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجُوعُ وَالسَّهَرُ وَالصَّمْتُ مَعَ الْخَلْوَةِ بِلَا حُدُودٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ سَهَرٌ مُطْلَقٌ وَجُوعٌ مُطْلَقٌ وَصَمْتٌ مُطْلَقٌ مَعَ الْخَلْوَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَغَيْرُهُ وَهِيَ تُوَلِّدُ لَهُمْ أَحْوَالًا شَيْطَانِيَّةً .
وَأَبُو طَالِبٍ قَدْ ذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ أَبُو طَالِبٍ أَكْثَرُ اعْتِصَامًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَلَكِنْ يَذْكُرُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ضَعِيفَةً بَلْ مَوْضُوعَةً مِنْ جِنْسِ أَحَادِيثِ الْمُسَبَّعَاتِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ الْخَضِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قِرَاءَةُ قُرْآنٍ وَيَذْكُرُ أَحْيَانًا عِبَادَاتٍ بِدْعِيَّةً مِنْ جِنْسِ مَا بَالَغَ فِي مَدْحِ الْجُوعِ هُوَ وَأَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُمَا وَذَكَرُوا أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ بِخَشَبِ رَطْبٍ كُلَّمَا جَفَّ نَقَصَ الْأَكْلَ . وَذَكَرُوا صَلَوَاتِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَكُلُّهَا كَذِبٌ مَوْضُوعَةٌ ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَذْكُرُونَ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ
يتبــــــــــــــــــــع